البرزخ (الليمبو)
نبذة مختصرة: 

وجدت إسرائيل نفسها في حالة عميقة من البرزخ (الليمبو) بعد انتخابات الكنيست الـ 22، والانتخابات التي سبقتها. ليست المنظومة السياسية الداخلية في إسرائيل فقط مشلولة وعالقة في الـبرزخ، بل إن إسرائيل كلها لا تعرف بعد ما هي وجهتها وماذا تريد. الحائط المسدود الذي وصلت إليه إسرائيل في المعركتين الانتخابيتين الأخيرتين هو الذي يعطي هذا التوصيف لوضعها الحالي المغزى الواسع والعميق: دولة مزدهرة، قوية مثلما لم تكن في أي يوم من الأيام من قبل؛ غنية كما لم تكن مطلقاً؛ ناجحة جداً في الساحة الدولية، لكن قابعة في البرزخ.

النص الكامل: 

عند كتابة هذه السطور، في نهاية تشرين الأول / أكتوبر، لم يكن أي شخص في إسرائيل يعرف ما هو توجه المنظومة السياسية، ومتى ستتشكل الحكومة، وأي حكومة ستقوم، ومَن سيكون على رأسها، أو هل ستجري معركة انتخابية أُخرى ثالثة خلال وقت قصير.

أيضاً عند كتابة هذه الأسطر، وعلى الرغم من الصدمات التي مرّ بها المجتمع في العديد من الأعوام السابقة، لا يوجد شخص في إسرائيل لديه فكرة إلى أين تسير إسرائيل، وكيف ستبدو بعد 10 - 20 عاماً، أو كيف تريد أن تبدو، وما هي أهدافها، وما ستكون حدودها، وما هي رؤيتها على المدى البعيد. وإذا كان الإسرائيليون لا يتوقفون عن مناقشة وتناول القضية الداخلية – السياسية، فإن المسألة الأكثر مصيرية لا يناقشها أحد تقريباً: الدولة في برزخ سياسي واستراتيجي: الأول يمكن حلّه بسرعة بطريقة أو أُخرى، أمّا الثاني فحلّه بعيد جداً.

المعركتان الانتخابيتان الأخيرتان دارتا حول موضوع واحد فقط تقريباً: مع نتنياهو أو ضده. انقسم الرأي العام إلى معسكرين، هما ربما المعسكران السياسيان الوحيدان في إسرائيل اللذان يملكان حدوداً واضحة: معسكر الذين يعتقدون أن رئيس الحكومة متهم جنائياً ولا يستطيع الاستمرار في تولّي منصبه، ومعسكر الذين يعتقدون أن نتنياهو ضحية فظيعة لنظام سحقه.

احتدم هذا النقاش ورافقته تساؤلات بشأن طبيعة النظام المعتمد في إسرائيل، وتحصّن المعسكران بمواقفهما، وخلقا مشهداً من الاستقطاب الأيديولوجي، في الوقت الذي لم يتخطّ هذا الجدل كثيراً حدود النقاش المتعلق بمصير نتنياهو الشخصي. ولقد برزت هنا وهناك موضوعات أُخرى مثل: علاقة الدين بالدولة، ودور جهاز القضاء، ومحاربة الفساد، والفصل بين السلطات، لكن الغرض من هذه الموضوعات كان فقط إعطاء أهمية أكبر لنقاش مستقبل نتنياهو.

مجتمع، كالمجتمع الإسرائيلي، يعيش حالة كبت وإنكار، لا يوجد كثير منه في العالم؛ فهو، منذ أعوام، متخصص بصرف الرأي العام وتحويل جدول الأعمال العام نحو موضوعات ثانوية، فقط للتهرب من الموضوع الأساسي [....]، وهذا كله بهدف التهرب من موضوع مصيري فعلي هو بلورة طابع الدولة وهويتها وموقفها وصورتها، وأساساً للتهرب من الفيل الكبير الموجود في الغرفة، فيل الاحتلال، الذي لا يتحدث عنه أحد، ولم يطرح أحد مصيره في هاتين المعركتين الانتخابيتين، وذلك انطلاقاً من فكرة أن عدم الحديث عن الاحتلال سيجعله يختفي من تلقاء نفسه ويتلاشى.

المعسكران أسرفا وبالغا في توصيف الوضع: نتنياهو ليس الشيطان الذي يقدمه المعسكر الأول، ولا الضحية المطلقة التي يقدمها المعسكر الثاني. هو ليس والد الخاطئين ولا والد الأمة، وربما هو ليس المسؤول الأول عن واقع الاحتلال. هناك كثيرون سبقوه وتأثيرهم كان أخطر كثيراً، بل هناك مَن هم أكثر فساداً منه وكانوا رؤساء حكومات وأشعلوا أكثر منه حروباً وتسببوا أكثر منه بسفك الدماء. لكن الجدل بشأن نتنياهو نجح في تحويل المشاعر من الأساسي إلى التافه، وخلق مشهداً زائفاً كما لو أنه يوجد يمين ويسار في إسرائيل: يمين يؤيد نتنياهو ويسار يحاربه بغضب شديد، بينما النقاش الحقيقي الوحيد هو بين يمين متطرف ويمين معتدل. الفوارق أيضاً بين المعسكرين إنشائية وأسلوبية أكثر ممّا هي جوهرية.

هذه هي الحدود الجديدة للنقاش العام في إسرائيل: يمين لطيف، ويمين غير لطيف، أمّا القائمة المشتركة، وهي الكتلة الثالثة حجماً في الكنيست، فيجري إقصاؤها من اللعبة. هذه أخبار سيئة جداً لكل مَن ينتظر تغييراً من داخل إسرائيل. حتى النقاش المتعلق بالديمقراطية الإسرائيلية والخطر الذي يمثله عليها نتنياهو، هو نقاش مضلل.

مع نتنياهو أو من دونه لا تستطيع إسرائيل أن تعتبر نفسها دولة ديمقراطية ما دام هناك أكثر من أربعة ملايين شخص خاضعين كلهم لسيطرتها، ويعيشون تحت استبداد عسكري أو حصار وحشي؛ إنها من أكثر الأنظمة التوتاليتارية الوحشية الموجودة اليوم في العالم. لكن إسرائيل تفضل التباهي بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهذا احتيال مطلق. هي دولة ليبرالية مع مواطنيها اليهود، ودولة قمع مع مواطنيها الفلسطينيين، ودولة مستبدة تجاه رعاياها من الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال. ثلاثة أنظمة في دولة واحدة، واحد بينها فقط يمكن أن يُعتبر ديمقراطياً. إن المزج بين الثلاثة لا يخلق ديمقراطية، إذ لا وجود لمثل هذه الديمقراطية، مع ثلاثة أنظمة لثلاثة جماهير مختلفة.

على العالم أن يعترف بذلك، وأن يتوقف عن اعتبار إسرائيل دولة ديمقراطية، ذلك بأنه لا وجود لحيوان كهذا بثلاثة رؤوس. ويتعين على اليهود الإسرائيليين الكفّ عن الشعور بأنهم يعيشون في دولة ديمقراطية، بل عليهم أن يشعروا فقط بأنهم أصحاب امتيازات ولديهم حقوق كامله.

في دولة اليهود يعيش إلى جانب اليهود وتحتهم مجتمعان لا يتمتعان بالديمقراطية، لكن ذلك لا يشغل بال إسرائيل. هنا في إسرائيل الأجواء تصبح عاصفة بشأن مسألة تعيين شخص ضعيف في منصب مراقب الدولة، لأن ذلك يُعتبر "إساءة فادحة للديمقراطية"، كما أن مسألة إضعاف محكمة العدل العليا، التي خانت وتخلت عن دورها في مواجهة الاحتلال، يمكن اعتبارها "نهاية الديمقراطية". بهذه الطريقة يمكن التعايش مع وجود الطغاة في الغرفة الخلفية والاستمرار في الإحساس الديمقراطي.

فوق سماء الدولة تربض غيمة ثقيلة مقلقة. النقاش العام في الدولة أصبح مشوهاً للغاية، فقد تحول مثلما قلنا إلى نقاش بين يمين متطرف، وآخر معتدل متنكر في هيئة حزب وسط. لا يوجد نقاش آخر.

إن انهيار معسكر السلام في أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد، وبعد قول إيهود باراك بعدم وجود شريك فلسطيني، والانتفاضة الثانية، واضح الآن أكثر من أي وقت مضى.

يبدو مستقبل الحوار العام في إسرائيل في الأعوام المقبلة غير مشجع، مع بروز جيل جديد أغلبيته لم تلتقِ قط بفلسطيني، باستثناء الفلسطيني المسلح الذي يظهر في وسائل الإعلام، أو الفلسطيني المهان في مواجهة الجندي المسلح؛ جيل شاب جاهل وقومي أكثر من الجيل الذي سبقه.

إن عملية نزع الشرعية التي تعرّض لها اليسار في إسرائيل حولت كلمة يسار إلى كلمة مسيئة؛ حل اليساري محل المثلي، كلعنة مشتركة. كذلك كلمة سلام اختفت تماماً من القاموس السياسي. لم يعد أحد يؤمن بها، ولم يعد أحد يجرؤ على الحديث عنها أو ذكرها بصراحة. اليوم يتحدثون عن تسوية، وعن المعركة بين الحروب. إذا تحدثت عن السلام تتحول إلى مهرج. صحيح أن في إسرائيل يساراً حقيقياً وهو شجاع وحازم، إلّا إنه ضئيل الحجم للغاية، وغير شرعي ومهزوم، وصوته لم يعد مسموعاً تقريباً. البلد بات يخلو تقريباً من اليسار، والمعركة الانتخابية الأخيرة أظهرت هذا الأمر جيداً.

الأكثر إثارة للقلق هو تسارع النقاش العام في اتجاه اليمين في إسرائيل، ونزع الشرعية عن كل مَن يخرق هذه الحدود، وهذا الأمر لم يبدأ في الانتخابات الأخيرة، وإنما وصل خلالها إلى ذروة جديدة. لم يظهر بين المرشحَين لرئاسة الحكومة، أكان بنيامين نتنياهو أم بني غانتس، أي فارق فعلي عند الوصول إلى مسألة مستقبل الاحتلال؛ الاثنان بالقدر نفسه، لا يؤمنان بتسوية عادلة مع الفلسطينيين. فعلياً، من مجموع 120 عضو كنيست في إسرائيل، هناك أكثر من 100 يؤيدون استمرار الوضع القائم، أي استمرار الاحتلال، وهذا لم يبدأ بصورة أو بأُخرى مع نتنياهو.

هذا الوضع له انعكاسات بعيدة المدى. وعلى الذين هم خارج إسرائيل الاعتراف بأن هذه الأخيرة لا تنوي تغيير سياسة الاحتلال، وليس لديها أي نية كهذه، وأن هناك إجماعاً إسرائيلياً مطلقاً، تقريباً، على ذلك. وبالتالي فإن تغيير رئيس الحكومة برئيس آخر لن يبدل من الأمر شيئاً.

أقصى ما يمكن أن يقوله بني غانتس قبل الانتخابات وبعدها هو أنه سيستأنف عملية السلام، وليس هناك كلام فارغ أكثر من ذلك. لا حديث عن الدولتين، ولا عن حل، ولا عن اتفاق، ولا نهاية السيطرة على شعب آخر، ولا تجميد المستوطنات، وبالتأكيد لا كلام على إخلائها، فقط محاثات سلام. فضلاً عن ذلك، فإن غانتس تعهّد بالبقاء في غور الأردن إلى ما لانهاية وفي كتل المستوطنات.

عندما يكون الهدف من استئناف أطول مفاوضات في التاريخ، هو فقط من أجل المفاوضات، مع شرط البقاء في جزء من المناطق، فإنه يصبح واضحاً تماماً أن مَن اعتبره اليسار أملاً له في إسرائيل، يبشّرنا بموت الفرصة الأخيرة لحل الدولتين، تماماً مثل نتنياهو الذي دفن رسمياً هذا الحل.

لكن هذا الحل في الحقيقة لم يمت لأنه لم يولد قط، فبعد 52 عاماً من الاحتلال منذ سنة 1967، حان الوقت للاعتراف بأنه لم يأتِ سياسي إسرائيلي إلى موقع أساسي وتحدث عن إنهاء الاحتلال؛ لا أحد، بمَن فيهم الحائزون جائزة نوبل للسلام. بل لم يخطر ببال أحد منهم، ولا حتى في حلمه، أن يمنح الفلسطينيين إمكان أن يقيموا لأنفسهم دولة طبيعية، مثل جميع الدول، مع المساواة في الحقوق مع جارتها إسرائيل.

لقد برزت في إسرائيل حكومات سعت للتخفيف من الاحتلال، لا لإنهائه، بل إدامته إلى ما لانهاية. إن الاعتراف بذلك ضروري من أجل التخطيط للمستقبل.

المعركة الانتخابية الأخيرة في إسرائيل لم تؤدّ إلى انقلاب، أو إلى بداية تغيير على هذا الصعيد، وإنما على العكس جرى شيء أسوأ كثيراً: الموضوع لم يعد مدرجاً في جدول الأعمال، وثمة شك في متى سيعود.

بناء على ذلك، فإن الموضوع المركزي الذي يحدد ماهية إسرائيل غير مطروح على جدول أعمالها. ليس هناك سبب لأن يحدث شيء آخر: الحياة في إسرائيل جيدة مع الاحتلال، ومعركة غسل الدماغ والقمع والإنكار، فعّالة بشكل لا يصدق، كما أن وسائل الإعلام مجندة لوظيفة طمس المعالم والإخفاء، ومن أجل إرضاء المستهلكين الذين لا يريدون أن يعرفوا ولا أن يروا ويسمعوا. هذا يمكن أن يستمر أعواماً طويلة، وأي سياسي إسرائيلي يريد أن يضع حداً لذلك، أو أن يُحدث تغييراً، يعرّض نفسه للانتحار السياسي. لكن لا يظهر في الأفق سياسي كهذا، لا يوجد نيلسون مانديلا، ولا فردريك وليام دوكليرك.

هكذا ينتقل القرار الحاسم إلى يد المجتمع الدولي. ومثلما حدث مع جنوب أفريقيا في الماضي، هنا أيضاً الضغط الخارجي وحده سيحدث تغييراً. ليس لدى إسرائيل اليوم أي دافع أو سبب لتغيير توجهها. المجتمع الدولي فقط يستطيع تغيير المعادلة الدائمة التي لا تدفع بموجبها إسرائيل ثمن الاحتلال، ولا يعاقَب الإسرائيليون بسببه أبداً. وما دامت هذه المعادلة موجودة، فحتى لو ظهر دوكليرك إسرائيلي ومانديلا فلسطيني، فإنه ليس لديهما أي فرصة في مواجهة إسرائيل المتحصنة بمواقفها الرافضة.

لم تغير الانتخابات في إسرائيل شيئاً في وضع الاحتلال ولن تغير، ذلك بأن كل ما تبقّى هو أقل أهمية من ذلك، ومرتبط به إلى حد كبير. ومن هنا، فإن الانتخابات في إسرائيل أقل أهمية ممّا تبدو عليه في إسرائيل وفي العالم، وفي الحقيقة إنها غير مهمة على الإطلاق.

 

*مقالة بالعبرية خاصة بـ "مجلة الدراسات الفلسطينية".
ترجمة: رندة حيدر.

السيرة الشخصية: 

جدعون ليفي: معلق في جريدة "هآرتس".