955 تصريحاً لزيارة بيت لحم لم يوافق الاحتلال على أي منها: مسيحيو القطاع يحاولون صناعة الفرح في عيد الميلاد
التاريخ: 
20/12/2019
المؤلف: 

يتجهّز مسيحيو قطاع غزة لاستقبال عيد الميلاد المجيد بصناعة بعض صور الفرح في ظل وطأة حصار ثقيل مفروض على القطاع منذ عقد ونيف.

لكن الحصار لا يمثل الوجه الوحيد لمرور العيد على مسيحيي القطاع بنكهة مختلفة، بل تُضاف إليه حواجز أخرى مفروضة عليهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تقيد مجال حركتهم في ربوع الأراضي المقدسة. فبيت لحم التي اعتادت أن تشرع أبوابها لكل مسيحي أياً كان مسقط رأسه، تبدو مجبرة على إقفالها كل عام في وجه مسيحيي غزة دوناً عن غيرهم. تواجه مدينة المسيح، بذلك تمزقاً بين رغبتها في احتضان أبنائها من القطاع، وبين جبروت المحتل الذي لا تملك شيئاً حياله.

يقول إلياس الجلدة، عضو مجلس وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية العربية في غزة: "قمنا بتقديم 955 تصريحاً لمسيحيي القطاع، لكن الاحتلال لم يوافق على أي منها حتى اللحظة. بالمقابل اكتفى بتصريح واحد يقضي بالسماح لمائة شخص فقط للسفر خارج فلسطين عبر الأردن من خلال معبر الكرامة." ويبدي الجلدة استنكاره متسائلًا: "ما فائدة السفر في العيد المجيد إنْ كان لوجهة أخرى غير بيت لحم والقدس؟ المفارقة أنّ مسيحيي العالم أجمع يحجون للديار المقدسة لممارسة شعائرهم الدينية، فيما نحن ممنوعون من أن تحطّ أقدامنا في مدننا المقدسة التي لا تبعد عنا سوى بضعة كيلومترات. بالتالي ماذا عسانا أن نفعل في مدن ودول أخرى بعيدة لا نعرفها ولا تعرفنا؟!".

يمارس الاحتلال الإسرائيلي، بذلك، تحديداً وضبطاً لطقوس الفرح بالنسبة إلى مسيحيي القطاع، كعادته الدائمة في التدخل في الإقرار نيابة عن الفلسطينيين بخصوص مراسيم فرحهم وحزنهم ونطاق حركتهم. إذ باتت التصاريح فترة الأعياد معضلة تتجدد فصولها كل عام، والتي عادة ما تتسم بالعشوائية وعدم التنظيم. يؤكد الجلدة أن الاحتلال يتفنن بإصدار تصاريح وهمية، إذ أصدر مرات عدة تصاريح لفرد واحد دون بقية العائلة أو العكس، ما يجبر العائلات على العزوف عن الحجيج إلى الأراضي المقدسة والمكوث في القطاع. وفي ضوء هذا، يستحضر الجلدة حادثة شخصية واجهت عائلته، إذ منحت سلطات الاحتلال العام المنصرم إذناً وحيداً بالسفر لأحد أبنائه فيما قوبلت تصاريح بقية العائلة المكونة من خمسة أشخاص بالرفض التام، مستنكراً: "ماذا بإمكان ابن الستة عشر عاماً أن يفعل بمفرده في زمن بات فيه السفر غير آمن البتة؟!".

ومن الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تدرج هذه التصاريح الوهمية ضمن نظام إحصاء جميع التصاريح الممنوحة، وذلك بغية تجميل وجهها أمام العالم، بوصفها "واحة احترام حقوق الإنسان وجنة تقديس حرية العبادة". ويُشار أيضاً إلى أن عملية الفحص الأمني لطلبات التصاريح المقدمة تستغرق خمسة وأربعين يوماً على أقل تقدير، لكن السلطات الأمنية تتعمد البدء بإجراءات الفحص في آخر اللحظات التي تسبق حلول العيد المجيد، كي يفقد المتقدمون أملهم من وصول القدس وبيت لحم.

لا تنتهي المسألة عند حدود هذه السياسة التعسفية، إنما تمتد لتكون أيضاً أداة عقاب بحق من يمتلك تاريخاً في النشاط السياسي ضد الاحتلال؛ فمسيحيو القطاع هم يشكلون مكوناً رئيساً في النسيج المجتمعي الفلسطيني وتطلعاته للتحرر. يتصور الجلدة أن اعتقاله منذ ثلاثين عاماً لنشاطه السياسي يبدو السبب الرئيسي وراء استحالة حيازته تصريحاً للسفر إلى البلاد المقدسة، فالاحتلال لا يمارس عقابه على الحاضر الذي يصنعه الفلسطيني، إنما أيضاً على ماضيه ومسار تاريخه، وإن توقف الجلدة عن ممارسة السياسة اليوم.

يستكمل الجلدة حديثه بخصوص العراقيل المنصوبة أمام مسيحيي القطاع بالقول: "حتى وإن حصل أحدنا على تصريح، فإن هذا لا يعني ضماناً تاماً بمغادرته القطاع، وأن تضييقات الاحتلال انتهت عند هذا الحد. إذ لا يمكن تجاهل عملية التفتيش المتعبة والقاسية، كما يُحظر على الغزيين عموماً اصطحاب أي شيء معهم، بما فيه الطعام والماء باستثناء حقيبة صغيرة، فضلاً عن ساعات الانتظار الطويلة. كل ممارسة قمعية تعتبر مباحة بنظر الاحتلال بذريعة الحفاظ على الأمن".

واستناداً إلى الإحصائيات الأخيرة التي تفيد بوجود 1030 مسيحياً في قطاع غزة، و45000 في الضفة الغربية، و11000 في القدس، يرى الجلدة أن حق مسيحيي القطاع في الحجيج إلى الديار المقدسة أثناء العيد المجيد يتجاوز الأبعاد الدينية نحو أخرى اجتماعية وإنسانية. يوضح هذا بالقول: "يتمثّل الجانب الاجتماعي في زيارة الأقارب في الضفة وقضاء العيد معهم، فمن الشائع أن تجمع علاقات القربى أو الصداقة بين الأسر المسيحية في القطاع ونظيرتها في الضفة. أما الإنساني فيعود إلى محدودية عدد المسيحيين في القطاع، إذ تتراوح نسبة الشباب ممن هم في سن الزواج ما بين 15% إلى 20%، فهؤلاء حتى وإن اختاروا شركاءهم في الحياة ضمن المحيط والعدد المحدود، فمن المحتمل ألا يشكلوا الخيار الصحيح لبعضهم البعض". يستعيد الجلدة من ذاكرته قصصاً لعدد من أصدقائه ممن تجاوزوا الخامسة والأربعين عاماً دون أن يتزوجوا، لعدم حظيهم بالخيار المناسب حتى اللحظة. يتخيل الجلدة أنه في حال كانت حواجز الجغرافيا مكسورة بين الضفة وغزة، خصوصاً في فترة الأعياد، لتمكن كثير من مسيحيي القطاع من التعثر بخيارهم المناسب بشكل أكبر وبناء أسر مشتركة.

من الصحيح أن كل ما سبق يشكل تنغيصاً لمشاهد الفرح المنتظرة، إلا إن الفرحة في نهاية المطاف لا بد أن تغلب على أي شعور يعكرها. فالعائلات المسيحية في القطاع تجهز نفسها لاستقبال العيد عبر إلباس منازلها حلية العيد، فتنصب شجرة الميلاد التي لطالما مثلت رمزاً أساسياً للبهجة مع وضع نجمة تترأسها بالأعلى، بجانب الزينة الأخرى. تقول إحدى هذه العائلات:"في اليوم الأول من العيد، نستيقظ باكراً للاستعداد للذهاب إلى الكنيسة وأداء الصلاة، ثم حينما نفرغ منها، نتبادل السلامات والتهاني ونذهب إلى صالة كبيرة لاحتساء القهوة معاً، كما يوزع المطران شوكولاتة فاخرة من القدس، وقد يزور البعض مقابر أمواتهم".

وتضيف الأم: "خلال العيد، نزور الأقارب، ثم يتحلق جميعنا حول مائدة الغداء أو العشاء. كما تعتبر البربارة من أشهر الأطباق التي نعدها في العيد، والتي تتكون من القمح المقشر، والزبيب، والسكر، واليانسون، والشومر، والقرفة، ونزينها بالصنوبر والفستق واللوز وجوز الهند".

أما على صعيد إحياء احتفالات العيد المجيد في الفضاء العام في غزة، فيمكن القول إن الهوية الإسلامية الطاغية على قطاع غزة تجعل من هذه الاحتفالات حبيسة المنازل والكنائس. ورغم أن حركة "حماس" التي تدير دفة القطاع لا تفرض قيوداً على الوجود المسيحي فيه، فإن صعود تمثلات الدين الإسلامي بعد سيطرتها على الحكم قوض، بشكل أو بآخر، مجالات انتفاع المسيحيين من الحيز العام والاحتفاء بالعيد المجيد بشكل يتجاوزهم إلى المسلمين، كما في بيت لحم والقدس ورام الله على وجه التحديد. يذكر أحد أبناء العائلة أن بابا نويل لم يعد يطوف في الشوارع كما في السابق، إنّما يظل حبيس أماكن محددة. يشار، أيضاً، إلى أن ثمة مجموعات سلفية محدودة تحاول في كل عيد فرض صوتها الإقصائي على المحال التي تبيع الزينة أو المزينة بحلية العيد، لكنها بالمجمل تبقى أصواتاً معزولة ومستهجنة من قبل مختلف الأطياف في غزة.

أما العائلة الأخرى التي حاورناها، فتتكون من امرأة وحيدة فقط، تعيش في ضائقة اقتصادية، وتتلقّى مساعدات بسيطة من الكنيسة لا تتجاوز المائة دولار شهرياً، والتي لا تقدمها الكنيسة بشكل دوري، إنّما يعتمد ذلك على المساعدات التي تتلقاها الكنيسة من الخارج، وبطبيعة الحال لا تكفي احتياجاتها من كهرباء وماء وطعام. تعيش المرأة في بيتها مظللة بالوحدة فهي غير متزوجة، وكانت قد فقدت أخاها الذي كانت تقطن معه قبل أعوام. لم تقم بنصب الشجرة، تقول والدمعة تجري في عينيها: "لمن سأنصب الشجرة؛ إلي والجدران من حولي؟!" جدير بالذكر، أيضاً، أن عينيها لم يلتقيا بشقيقتها التي تعيش في الداخل المحتل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، متخيلة أن الموت وحده قد يلقي بسلطته على مسألة التصاريح ويحقق حلم اللقاء، فكما تقول: "ربما حينما ينطفئ جسدي من هذه الحياة، تطلب شقيقتي تصريحاً لزيارة غزة، مبينة أن السبب يعزى إلى وفاة إحدى قريباتها!".

لكن هذه المرأة الحزينة التي تعيش على وقع الفقدان والخسارة، تبدو مسكونة بطاقة روحانية كبيرة، لتشرح لنا أن معالم العيد المجيد من الزينة ليست عبثية، إنما يحمل جميعها مغزى محدداً. فبينما ترمز النجمة إلى الوعد السماوي، تشير الرابطة التي تربط عبرها الهدايا، إلى أهمية ترابط وتقارب الجميع مع بعضهم البعض، فيما الجرس ُنذر بكثير من البهجة والهداية، كما يرمز اللون الأخضر إلى جميع الصلوات المرفوعة للسماء والتجدد والحياة. أما الأحمر، فيرمز إلى موت المسيح لأجل الحياة الأبدية، وأخيراً بابا نويل الذي يعتبره كثيرون محض شخصية منسوجة من الخيال، إلا إنه في الواقع مستوحى من شخصية القديس نيقولاس أسقف مورا المعروف بجمعه بين الغنى ومخافة الله؛ إذ كان يوزع الصدقات على الفقراء دونما الكشف عن هويته، واشتهر بكثرة الإحسان خفية.

من الجدير بالذكر أن أياً من أفراد العائلتين وافق على ذكر اسمه أو التقاط صورة تذكارية، تحسباً لإعاقة حصوله على تصريح من قبل الجانب الإسرائيلي.

صورة الغلاف: عيد الميلاد في غزة، تصوير سند أبو لطفي.