الإنتاج الفني في الانتفاضة الفلسطينية الأولى
النص الكامل: 

 "تلاثين نجمة تضوي على وادي السرو"

حسين جميل البرغوثي

 

البوسطة من رام الله إلى الظاهرية

في شباط / فبراير 1989، كنا معتقلين في سجن رام الله المركزي. كان نائماً إلى جانبي في خيمة الاعتقال، فقد أعيد إلى هذا المعتقل مرة ثانية بعد خروجه منه قبل أسبوع. كان الجندي المناوب يراقبه بحقد: ما الذي أتى بهذا الشاب مرة ثانية إلى المعتقل خلال أسبوع؟ "بالتأكيد إنه مخرب كبير."

في اليوم التالي، وضعونا في الحافلة بهدف نقلنا إلى معتقل الظاهرية في أقصى جنوب الضفة الغربية، والذي افتُتح خلال الانتفاضة. صعد الجندي المناوب إلى الحافلة، ونادى عليه بصوت مرتفع. رفع يده اليسرى مؤكداً وجوده (في الحافلة)، وكنت جالساً إلى جانبه. جاء إليه الجندي وانهال عليه ضربا؛ حاولت الابتعاد، وتظاهرت بأنني لا أعرفه، كي لا يقوم الجندي بضربي أيضاً. كان اعتقالي الأول، والاعتقال الأول مرعب ومخيف، لكنه خطوة أولى لفك عقدة الخوف من الاحتلال.

استمر الجندي في ضربه مدة طويلة، وأنا ارتجف خوفاً، وهو يصيح من شدة الألم.

اليوم، وبعد ثلاثين عاماً، تم تعيينه مديراً عاماً لمؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ أعتقد أن تعيين خالد فرّاج في هذا الموقع، هو تقدير لجيل الانتفاضة.

 

الانتفاضة إبداع شعبي

ما هي العوامل التي أنتجت الانتفاضة كحالة شعبية واسعة؟ سؤال طرحه مؤتمر "انتفاضة 1987: الحدث والذاكرة".

  • في سنة 1987، كانت الذكرى الـ 39 لنكبة فلسطين التي قال عنها إلياس خوري "إنها فعل يجري في الحاضر." شُرّد الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، عاش حياة ذل في مخيمات اللجوء، معتمداً على بطاقات الأونروا التي نسميها (كرت المؤن) لتأمين غذاء أطفاله، واعتمد على البقجة التي كانت تأتي من دول العالم لتوفير ملابس عائلته.
  • 20 عاماً على احتلال الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، وما نجم عن الاحتلال من حكم عسكري، وإدارة مدنية شكلتها سلطات الاحتلال، ومحاولات إسرائيلية لخلق بديل من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلنا الشرعي والوحيد، وقد تمثلت تلك المحاولات في تشكيل روابط القرى، وتعيين ضباط من جيش الاحتلال لرئاسة البلديات، بعد محاولات اغتيال ثلاثة من رؤساء البلديات المنتخبين (بسام الشكعة؛ كريم خلف؛ إبراهيم الطويل)، ونفي آخرين (الشهيد فهد القواسمي؛ محمد ملحم).
  • افتتاح معتقلات مخصصة للشباب ما دون عمر 18 عاماً؛ مثل معتقل الفارعة الواقع في منطقة الأغوار، حيث كانت سلطات الاحتلال تعمل على تدمير مستقبل الشباب من خلال حرمانهم من استكمال دراستهم الثانوية بعد الخروج من المعتقل، أو محاولة تجنيدهم للعمل معها من خلال تخويفهم.
  • اجتياح لبنان في سنة 1982، وما أنتجه من صمود أسطوري للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من جهة، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس، واليمن، والجزائر من جهة أُخرى. يقول الدكتور حسين البرغوثي في كتابه "الفراغ الذي رأى التفاصيل "ورحلوا عن بيروت ـ هم، نحن الذين في الخارج."
  • تحرير 1500 أسير فلسطيني من سجون الاحتلال بعد عملية تبادل أسرى بين "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة" والاحتلال الإسرائيلي، ليرفع هؤلاء الأسرى المحررون من الروح المعنوية للشارع الفلسطيني، ويشكلوا قادة ميدانيين ونماذج للمقاومة الوطنية.
  • في تلك المرحلة، وخصوصاً بعد سنة 1982، انتقلت ساحة النضال المركزية من خارج الأرض المحتلة إلى داخلها، حيث ارتفع وتصاعد دور الحركات والمنظمات الجماهيرية الطلابية، والتطوعية، والعمالية، والنسوية، والنقابية، والتعليمية، والثقافية. وجرى تأسيس العديد من منظمات المجتمع المدني في المجالات الصحية، والزراعية، والحقوقية، والثقافية، والتي ساهمت في تقديم الخدمات للمجتمع الفلسطيني، في ظل انعدام الخدمات المقدمة من طرف سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وقد عملت هذه المنظمات على تشكيل سلطة بديلة من سلطة الاحتلال، كمقدمة للاستقلال السياسي (كان هناك توجه لدى فصائل العمل الوطني الفلسطيني بعد الخروج من لبنان، بنقل ثقل العمل إلى الداخل، ومراكمته ومركزته هناك).

تلك هي بعض أسباب اندلاع انتفاضة 1987 التي انطلقت في 9 كانون الأول / ديسمبر، والتي كانت شرارتها استشهاد 4 عمال من قطاع غزة في 8 كانون الأول / ديسمبر، في إثر قيام أحد المستوطنين الإسرائيليين متعمداً بدهس سيارتهم بشاحنته الكبيرة (المقطورة).

 

مساهمةالثقافة والفنون في تشكيل الوعي الوطني لجيل الانتفاضة

في تلك المرحلة، وخصوصاً ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد سنة 1982، ساهمت الثقافة والفنون في تشكيل الوعي الوطني لجيل الانتفاضة وانخراطه في الحركة الوطنية الفلسطينية، فالإنتاج الفني والثقافي ساهم في الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية، والتراث الشعبي الفلسطيني، وحمايتهما من عملية التهويد، فضلاً عن البعد الفني والجمالي لهذا الإنتاج.

 

الصورة والبوستر

في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كانت تُعلّق صورتان على جدران المنازل الفلسطينية: الأولى للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والثانية لعبد الحليم حافظ. عبد الناصر المخلص، وعبد الحليم حافظ اليتيم، الفقير، الحزين الذي صعد نجمه في عالم الغناء ليصبح معبّراً عن أحلام جيل الشباب وتطلعاتهم، ومغنياً للثورة.

في الثمانينيات، استبدل جيل الانتفاضة هذه الصور بلوحات كامل المغني، وسليمان منصور، وفتحي غبن، ونبيل عناني، وعصام بدر، وإسماعيل شموط، وبوستر تشي جيفارا، ورسومات ناجي العلي التي كانت تُنشر في جريدة الميثاق. وكانت الحركة الوطنية تقوم بطباعة هذه اللوحات وتبيعها في المكتبات، ومعارض الكتب في الجامعات.

 

الأغنية

كان الكاسيت بديلاً من موبايل اليوم، وقد استمع جيل الانتفاضة إلى الأغاني الوطنية فقط، بل إن بعضهم كان لديه موقف من الاستماع إلى الأغاني الأجنبية كونها تعبّر عن ثقافة إمبريالية. استمعنا وحفظنا ورددنا في رحلاتنا وأعمالنا التطوعية أغاني الشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وزياد رحباني، وأحمد قعبور، وخالد الهبر، وجورج قرمز، والعاشقين، وصابرين، والرحالة، وفرقة يعاد، وفرقة الطريق، وفرقة بلدنا، وأغاني وليد عبد السلام. أغانٍ ثورية من مصر، ولبنان، والعراق، وفلسطين، والأردن.

 

المسرح

في سنة 1983، قامت فرقة الحكواتي المقدسية باستئجار سينما رغدان التي كانت تعرض أفلاماً إباحية، وحوّلتها إلى مسرح بعد إعادة تأهيلها. شكّل هذا المسرح مركزاً ثقافياً وطنياً في تلك المرحلة، كان بالنسبة إلينا مساحة مهمة لمشاهدة مسرحيات المتشائل، وحكايات الصلاة الأُخرى، وجليلي يا علي، وقصة العين والسن، ومشاهدة أمسيات موسيقية، وعروض راقصة، واحتفالات فنية في مناسبات وطنية، لكن سلطات الاحتلال كانت تغلق المسرح أحياناً عندما يتم تنظيم احتفال فني في أمسية وطنية. وعلاوة على مسرح الحكواتي، ظهرت مجموعة من الفرق المسرحية المهمة، مثل مسرح سنابل، ومسرح القصبة، وغيرهما.

 

الرقص الشعبي والفنون الشعبية

شكلت فرق الرقص الشعبي والفنون الشعبية، أحد أهم الأشكال الفنية التي ساهمت في تشكيل الوعي الوطني وحماية التراث الشعبي الفلسطيني، فتأسس العديد من الفرق، ونُظمت المهرجانات والمسابقات في الجامعات، وخصوصاً في جامعتَي بيرزيت وبيت لحم. وقد قدمت هذه الفرق عروضها في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وحيفا، والناصرة، وعكا، والجولان السوري المحتل بحضور جماهير غفيرة، حتى إن بعض هذه الفرق قدم عروضه في الجامعة العبرية، بدعوة من لجنة الطلاب العرب في الجامعة.

وكان نجم الزجل الشعبي راجح السلفيتي يشهد صعوداً في تلك الفترة، وكانت الأغاني والرقصات تبثّ روح الحماسة لدى أبناء الشعب الفلسطيني كافة؛ ففرق الفنون الشعبية الفلسطينية، وسرية رام الله الأولى، وشرف الطيبي، وغسان كنفاني، وسردا، كانت على تماسٍ تام وتلاحم مباشر مع الجمهور الفلسطيني، وكذلك فرقة أغاني العاشقين الفلسطينية.

كانت أغاني "عن إنسان"، و"دخان البراكين"، و"هز الرمح بعود الزين"، و"بارودة ع البارودة"، و"اشهد يا عالم علينا وع بيروت"، تُردَّد في كل ساحة، وجلسة، ورحلة، وعمل تطوعي.

تميزت جامعة بيرزيت في تلك المرحلة بتنظيم مهرجان ليالي بيرزيت من طرف مجلس الطلبة، والذي ساهم في إطلاق أهم الفرق الفنية الفلسطينية مثل صابرين، والفنون الشعبية، وشرف الطيبي، وجذور، وسردا، وغسان كنفاني، والحكواتي، وصندوق العجب، ويعاد.

 

السينما

على الرغم من أن السينما الفلسطينية ظهرت وانطلقت وتمأسست في الخارج من خلال أقسام السينما التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المتعددة، فإنه، وفي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، بدأ مجموعة من سينمائيي الأرض المحتلة بالظهور مثل ميشيل خليفي، وجورج خليفي، وإيليا سليمان، ورشيد مشهراوي، ومي مصري، الذين باشروا العمل على إنتاج أفلامهم، منها "الذاكرة الخصبة"، و"معلول تحتفل بدمارها"، و"عرس الجليل" لميشيل خليفي.

وكان من الطبيعي جداً أن نصل إلى مرحلة الانتفاضة، وخصوصاً بعد التعبئة الوطنية التي كانت الحركة الثقافية والفنية جزءاً منها.

 

الانتفاضة الفلسطينية إبداع شعبي

في 9 كانون الأول / ديسمبر 1987 انتفض الشعب الفلسطيني؛ انتفض على قمع الاحتلال مطالباً بحريته واستقلاله، وانتفض على خوفه، وانتفض على جيل النكبة الذي رهن حياته منتظراً عودته على أيدي جيوش عربية، وخائفاً من نكبة أُخرى؛ سألني والدي خلال حرب الخليج الأولى: "وقتيش راح نهاجر يابا؟"

انتفض أطفال الحجارة، ولم ينتظروا جيشاً عربياً، ولا حلولاً خارجية. كانت وسيلتهم النضالية بين أيديهم وأمام أعينهم، وعلى سناسل أراضيهم، وفي أراضي الزيتون التي يقطفونها في مخيمات العمل التطوعي، وعلى أنقاض بيوت الأسرى التي هدمها الاحتلال، والتي قاموا بإعادة بنائها في عمل تطوعي، وكانت تشكل المرمى / الجول في لعبة كرة القدم في الحارات وأزقة المخيم، وكانت الفتيات يشكلن منها لعبة بيت بيوت. كان الحجر وسيلتهم النضالية البسيطة والمؤثرة، التي أصبحت رمزاً نضالياً إبداعياً. هناك وقت لرمي الحجارة، وهناك وقت لجمعها. هذا ما قالته مسرحية "حرب" التي عُرضت في فلسطين.

اندلعت الانتفاضة من خلال تظاهرات شعبية في المدن والقرى والمخيمات، شارك فيها جميع أبناء الشعب الفلسطيني: أطفالاً، وشباباً، ونساء، ورجالاً، وطلبة، وعمالاً، ومهنيين، وأكاديميين، وفنانين.

أبدع الشعب الفلسطيني في انتفاضته التي لم تقتصر على مواجهات يومية فحسب، بل امتدت أيضاً إلى التعليم الشعبي في ظل إغلاق المدارس والجامعات. كما اعتُمدت منتوجات الاقتصاد المنزلي بديلاً من البضائع الإسرائيلية، وتشكلت حماية جماهيرية للعمال الذين رفضوا العمل في المستعمرات، وللمحلات التجارية التي كانت تغلق أبوابها يومياً في الساعة 11 صباحاً للمشاركة في الإضراب، فالاحتلال كان يكسر أقفال الأبواب التجارية ويفتح المحلات، فتبقى المحلات مفتوحة وآمنة إلى أن يأتي الشباب حاملين أقفالاً جديدة ويقومون بإعادة إغلاقها. لقد انخرطت مكونات الشعب الفلسطيني كلها في الانتفاضة بقرار ذاتي وبوسائل متنوعة، فلكل دوره في النضال، وكان الشارع لنا.

 

الفن والانتفاضة

مع اندلاع الانتفاضة الشعبية، انخرطت الحركة الفنية الفلسطينية والفنانون الفلسطينيون فيها، من خلال إنتاج أعمال فنية، وتقديم عروض تعبّر عن روح الانتفاضة والمقاومة الشعبية. كان الفنانون ينتجون أعمالهم مساء، وفي الصباح يشاركون في التظاهرات والمسيرات الشعبية. وقد اعتقل الاحتلال العديد منهم، وأغلق المؤسسات الثقافية.

جاء في النداء الثالث للقيادة الوطنية الموحدة الصادر في كانون الثاني / يناير 1988: "إلى الأكاديميين والفنانين بمختلف تخصصاتهم... الانتفاضة بحاجة إلى جهد كل منكم، فلتشاركوا في اللجان الوطنية والشعبية واللجان المتخصصة والمساهمة الفعالة في الانتفاضة؛ سواء بأعمال التموين والمعونة، أو الكتابة الأدبية، وصياغة الأغاني والأهازيج والشعارات، والمساهمة في الحملات الإعلامية، وأيضاً تنظيم المسيرات والاعتصامات ضد سياسة الاحتلال." وفي ندائها رقم 20 (نداء القدس) الصادر في 22 حزيران / يونيو 1988 حددت في برنامجها الكفاحي أن يكون "1 تموز [يوليو] يوم التراث الفلسطيني، تقام فيه الندوات والمعارض وغيرها من أجل إبراز الوجه الحضاري لتراثنا الوطني وصيانته من محاولات الطمس والتشويه." وأيضاً في ندائها رقم 41 (نداء التحدي والاستمرار) الصادر في 12 حزيران / يونيو 1989، حددت في برنامجها الكفاحي أن يكون "السبت 1 تموز [يوليو] يوم التراث الفلسطيني، تقام فيه المهرجانات والمعارض التراثية والبازارات تأكيداً على تمسّك شعبنا بتراثه وحفاظه عليه من محاولات التزوير." وأيضاً في ندائها رقم 58 (نداء التحدي للحكومة العنصرية) الصادر في 13 حزيران / يونيو 1990، حددت في برنامجها الكفاحي أن يكون "الأحد 1 تموز [يوليو] يوم التراث الفلسطيني، تقام فيه معارض التراث ويرتدي فيه شعبنا الزي الوطني، وتُحيى حلقات الدبكة والغناء الشعبي."

لقد شكلت الانتفاضة مصدر إلهام للفنانين الفلسطينيين وللفرق الفنية، وشكلت نداءات القيادة الوطنية مرجعاً وموجهاً عاماً للحركة الفنية، فانخرط الفنان الفلسطيني في الانتفاضة، من خلال مشاركته في التظاهرات والمسيرات اليومية، وإنتاج أعمال فنية تعبّر عن روح الانتفاضة.

 

الصورة والبوستر

للصورة والبوستر مكانة مهمة في المجتمع الفلسطيني، وخلال فترة الانتفاضة، تم إنتاج العديد من البوسترات من طرف منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المتعددة، فضلاً عن البوسترات التي أنتجتها المؤسسات والمنظمات الأهلية واللجان الشعبية. واستخدمت البوسترات في معظمها الحجر كرمز للانتفاضة والمرأة والطفل، وعبّرت عن واقع الانتفاضة وأساليبها النضالية المتنوعة.

 

الأغنية في الانتفاضة

ساهمت الأغنية في الانتفاضة بشكل كبير، من خلال الأغاني التي أنتجتها فرق فنية، وفنانون، وزجّالون. وسأضرب مثلاً هنا ما أنتجته فرقتا صابرين، والفنون الشعبية الفلسطينية.

 

فرقة صابرين

أصدرت فرقة صابرين خلال السنة الأولى للانتفاضة ألبوم "موت النبي" الذي عملت على تأليف وتلحين جزء منه قبل الانتفاضة. احتوى الألبوم على 7 أغانٍ، و3 مقطوعات موسيقية، والأغاني من تأليف حسين البرغوثي وصبحي الزبيدي، ومن ألحان سعيد مراد، وغناء كاميليا جبران.

حملت الأغاني عناوين: حب؛ خيال المزغرتات؛ شيلة بيلة؛ عيش يا كديش؛ أغنية وطنية؛ أغنية للطفولة؛ يا حلالي. وحملت المقطوعات الموسيقية عناوين: موت النبي؛ رقصة المقاومة؛ ارتجال على رقصة القمر.

عبّرت هذه الأغاني عن الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني قبل الانتفاضة وخلالها، من خلال أسلوب موسيقي معاصر شكّل ثورة في مجال الأغنية الوطنية في تلك الفترة.

وهنا أقتبس كلمات بعض الأغاني:

 

"يا حلالي"

من تأليف حسين البرغوثي الذي قال عنها في كتابه "الفراغ الذي رأى التفاصيل": "إنها أغنية ـ نبوءة بالهزة القادمة".

 

حكاية ومرّت صارت ذكرى / ذكرى ومرّت صفّت جمرة / جمرة وهبّت صفّت ثورة / وغابة انحرقت صارت خضرا / وأمي صبرا قالت مرة / فواج فواج يهبّوا الناس.

 

"أغنية وطنية"

غابت علينا الشمس يا جحيشتي يللا / علينا نعجل شوي وتوكّلي ع الله / نغير التاريخ نوصل المريخ / ونطلع الشيطان ونشوفوا ليش زعلان / منذ الأزل علينا / علينا نعيد المجد غابر علينا نغير الشوادر / الشوادر والخيم / والعيشة مثل الغنم / والزعيم اللي هرب / مش من تقاليد العرب / لا عند العرب عيب وسرها في الغيب /علينا نعمل العجايب علينا نعرف السبايب / السبايب والعلل / والعشاير في الملل / في الذي منا انتهب وفي التاريخ اللي انتكب / مش نكبة ونكبتين / يا ليلي يا عيني يا عين.

 

وخلال فترة الانتفاضة عملت فرقة صابرين على إنتاج ألبوم "جاي الحمام" الذي صدر في سنة 1994، والذي احتوى على 9 أغانٍ ومقطوعة موسيقية. الأغاني من تأليف حسين البرغوثي، وألحان سعيد مراد، وغناء كاميليا جبران. حملت الأغاني عناوين: النوري؛ رسالة مبعد؛ تلاثين نجمة التي تم تأليفها في ذكرى مرور 30 شهراً على الانتفاضة؛ رام الله 89؛ الخضر؛ جاي الحمام؛ يمّاي؛ القرصان؛ أبو حبلة.

وسأتطرق لاحقاً إلى الحديث عن هذا الألبوم.

 

فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية

خلال الانتفاضة الأولى أنتجت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية ألبوماً غنائياً حمل مجموعة من الأغاني الشعبية التي أعيد تأليفها بما يتلاءم مع واقع الانتفاضة ومفرداتها ومصطلحاتها، إلى درجة أن هذه الأغاني أصبحت تُردد في المسيرات والتظاهرات، وقد اعتُقل ملحن هذه الأغاني الفنان سهيل خوري لـ 6 أشهر في أثناء عودته من ستوديو التسجيل حاملاً آلاف الأشرطة التي تمت طباعتها.

 

المسرح

ساهم المسرح الفلسطيني في الانتفاضة أيضاً، وذلك من خلال إنتاج العديد من العروض المسرحية، منها: كفر شما؛ العصافير؛ موتى بلا قبور؛ مسرحية أنصار التي عالجت موضوع معتقل النقب وقضايا الأسرى، إذ كان قد جرى افتتاح معتقل أنصار في صحراء النقب مع بداية الانتفاضة، والذي ضم آلاف المعتقلين الفلسطينيين في أقسامه الستة. وقام مسرح الحكواتي بفتح أبوابه أمام الفرق الفلسطينية، وخصوصاً فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، وفرقة سرية رام الله الأولى للرقص، لإجراء تدريباتهما في المسرح، بسبب صعوبة التدريبات في مدينة رام الله، كما استضاف ونظم العديد من الأمسيات الفنية التضامنية مع الانتفاضة الفلسطينية.

 

فرق الرقص

تميز دور فرق الرقص الشعبي خلال الانتفاضة الفلسطينية بكونها فرقاً تقدم عروضاً شعبية وأغاني وطنية مستلهَمة من التراث الشعبي الفلسطيني، فأنتجت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية عرض مرج ابن عامر، وأنتجت فرقة السرية عرض جبينة، وكانت الفرق تمارس تدريباتها على مسرح الحكواتي في القدس بعد انتهاء مشاركة أعضائها في التظاهرات والمسيرات الشعبية، وقدّمت عروضاً فنية للتضامن مع أهالي الأسرى. ومن أهم ما ميز هذه الفرق هو شكل التعاون والتشبيك فيما بينها، فعند إنتاج فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية عرض مرج ابن عامر، قامت باستعارة راقصين من السرية، نظراً إلى اعتقال مجموعة من أعضاء الفرقة، وبعد اعتقال 50 عضواً من السرية خلال شباط / فبراير ـ آذار / مارس 1989، وإغلاق السرية، فتحت فرقة الفنون الشعبية أبوابها أمام فرقة السرية لإقامة تدريباتها وعقد اجتماعاتها. وقد ساهمت فرق الرقص في أراضي 1948، في إنتاج أعمال فنية راقصة، كان من أهمها فرقة موال للرقص الشعبي والحديث من الناصرة.

 

السينما

أُنتج العديد من الأفلام الوثائقية الفلسطينية خلال الانتفاضة، وكانت في معظمها أفلاماً تسجيلية تصور وتوثّق واقع الانتفاضة، مثلما هو أسلوب سينما الثورة الفلسطينية في إنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية.

 

سؤال متأخر، ولكن!!

 

هل حظيت الحركة الفنية باحترام المجتمع الفلسطيني وتقديره؟ وهل شكلت الإنتاجات الفنية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى قيمة فنية، أم إنها كانت مجرد مساهمة نضالية في حدث وطني انتهت مع انتهائه؟

في اعتقادي نعم، حظيت الحركة الفنية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى باحترام وتقدير من جانب المجتمع الفلسطيني، والقيادة الموحدة للانتفاضة، اللذين اعتبرا أن الفن يؤدي دوراً مهماً في الثورة، فقد كنّا على قناعة تامة بمقولة: "أعطني مسرحاً أُعطِك ثورة". وقامت الفنون والإنتاجات الفنية بدور مهم في بناء الوعي الوطني الجماعي، وتشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية.

علاوة على ذلك، شكلت معظم الإنتاجات الفنية قيمة فنية وثورة فنية حقيقية؛ فأغاني صابرين كانت تجديداً في الموسيقى الفلسطينية من حيث الكلمة واللحن والأسلوب، وفرق الرقص خرجت من عباءة التقليد لتقوم بالتجديد في الرقصات والأغاني والأزياء. وما زال أثر هذه الإنتاجات الفنية راسخاً في عقل الشارع الفلسطيني ووجدانه، كما لا يزال أثر الانتفاضة راسخاً في عقل الشارع الفلسطيني ووجدانه كمرحلة سياسية نعتز بها وبقيمها.

كانت الإنتاجات الفنية والأنشطة الثقافية إحدى آليات الانتفاضة التي ساعدت الشعب الفلسطيني على التأقلم والصمود، ومثلت أحد أشكال التعبير عن أهداف الانتفاضة في الحرية والاستقلال. لقد ساهمت الإنتاجات الفنية في حفظ الذاكرة الجمعية للانتفاضة وحمايتها.

اليوم، وبعد مرور 30 عاماً على الانتفاضة الأولى، وما تعيشه فلسطين من حالة انقسام سياسي مخجلة انعكست على المجتمع، ومن سياسات قمعية من طرف الاحتلال الإسرائيلي، تتمثل في زيادة عدد المستعمرات، وعزل المدن الفلسطينية، وعزل القدس، ومحاولة فصلنا عن أهلنا في أراضي 48، نجد أنفسنا اليوم مثلما كتب حسين البرغوثي في أغنية "تلاثين نجمة" التي ألفها بمناسبة مرور 30 شهراً على الانتفاضة الأولى: "تلاثين نجمة تهوي على وادي السرو / نص العمر يهوي / وتغيرت الأيام واتبدلت الأحلام / واتكسرت سروة".

اليوم، لم يعد البوستر، وخصوصاً ذلك الذي تُنتجه فصائل العمل الوطني، يحمل قيمة فنية، وإنما تحول إلى تقليد لبوسترات الحركات الإسلامية (صورة فوتوغرافية لأسير أو شهيد أو قائد، بخلفية أسلحة وقنابل ونيران مع شعارات مكثفة). اليوم، وللأسف، فإن بعض الشخصيات اليسارية يهاجم بوستراً لمهرجان رام الله للرقص المعاصر لأنه يستخدم إحدى صور الانتفاضة الأولى تخليداً لذكراها الـ 30، الأمر الذي أعاد إلى ذاكرتي بوستر الفنان رمزي أبو رضوان الذي نُشر في الانتفاضة الأولى، والذي يجمع بين الطفل الذي كان يواجه جنود الاحتلال على مدخل مخيمه، وبين صورته (الفنان رمزي أبو رضوان) موسيقياً يحمل آلته الموسيقية.

اليوم، وللأسف، تقدم إحدى طالبات جامعة بيرزيت مداخلة في مؤتمر الثقافة الفلسطينية إلى أين؟ تعتبر فيها أن ألبوم "جاي الحمام" لفرقة صابرين يعبّر عن حالة انكسار سياسي بعد أوسلو ويدعو إلى السلام، وتعتبر الأغاني التي أنتجتها حركة "حماس" في الانتفاضة الثانية تصنع ثقافة مقاومة، وتتجاهل أو لا تعلم، أن ألبوم "جاي الحمام" كان قد أُنتج في الانتفاضة الأولى، وتم توزيعه في سنة 1994، وأن أغنية "جاي الحمام" لا علاقة لها بأوسلو وباتفاقية السلام، بل هي أغنية عن مطاردي الانتفاضة، وتقول كلماتها:

 

"جاي الحمام"

أكلك جرادة مغمسة بلقمة عسل / لبسك خيش وبر جمال / دربك شوك / زهوره قلال / يا قمر ع حدود / يا نبي مطرود / صوته بنده في البراري / وسّعوا الطرقات / لغزلان المحبة والسلام / جاي الحمام من الجبل.

 

وبما أن الأمل قوة، فقد ظهرت خلال الأعوام الأخيرة، مجموعة من الفنانين والمؤسسات الفنية التي شكلت ظاهرة ثقافية وفنية معاصرة، وخلقت ثورة على مستوى الخطاب الثقافي والفني. وهذه الظاهرة خرجت من عباءة الكوفية الفلسطينية، بمعنى أن الإنتاج الفني الفلسطيني لا بد من أن يقابل بالترحاب والتضامن كونه فلسطينياً فقط، وأصبحت تقدم أعمالاً فنية تحظى بتقدير نقدي لقيمتها الفنية، مثل مجموعة من الفرق المسرحية والغنائية، والسينمائيين، وفرق الرقص، والمهرجانات الفنية.

وما يميز هذه الظاهرة هو عمق وقوة التعاون المشترك بين الفنانين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وفلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الخارج، فضلاً عن تعاونهم مع فرق وفنانين ومؤسسات فنية عربية وأجنبية.

والأهم من ذلك، أن هذه الفرق والمهرجانات وهؤلاء الفنانين أصبحوا يشكلون رداً ثورياً عميقاً صريحاً واضحاً على إنتاجات الحركات الإسلامية.

أُنهي بما قاله الموسيقي سمير جبران:

 

علينا ألاّ نستسلم لهذه الهوية، فيأتي عملنا بطولياً لأننا نحب صورة البطل فينا. ولكن علينا، أيضاً، ألاّ نستسلم لهذه الهوية فنصبغ عملنا بروح "الضحية" البكّاءة، لأننا نحب صورة الضحية.

على المثقف والفنان الفلسطيني أن يخرج من الصورتين المذكورتين، فينتج عمله الفني على قاعدة أننا بشر عاديون، لا أبطال أو مجرد ضحايا، وعلى قاعدة أن ما يجري من حولنا من اضطهاد واحتلال للأرض والذاكرة والواقع والأحلام، إنما هو واقع سياسي متغير وزائل بالضرورة. وعلى الفنان الفلسطيني تحديداً، ألاّ يسمح للواقع بأن يُثقل هويتنا السياسية ويزيد من ضغطها على الثقافة والإبداع؛ كأن يعرّف عن نفسه بأنه "فنان فلسطيني"، لا "فنان من فلسطين."

فـ "الفنان الفلسطيني" هو مَن تهيمن على معاييره الفنية الهوية الفلسطينية، أمّا "الفنان من فلسطين" فهو مَن يغذّي هويته السياسية والوطنية ثقافة وتحريراً.

 

 

* النص عبارة عن ورقة قُدِّمت خلال مؤتمر "انتفاضة 1987: الحدث والذاكرة" الذي نظمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في دار النمر للفن والثقافة ـ بيروت، بتاريخ 30/11/2017.

السيرة الشخصية: 

خالد عليان: المدير التنفيذي لفرقة سرية رام الله الأولى ورئيس مهرجان رام الله للرقص المعاصر.